Info
AR اللغة AR
Side Menu
المناظرة في التراث الإسلامي
April 17, 2022 0

مقدمات حول المناظرة في التراث الإسلامي

لم يكن علم المناظرة غريبًا على الثقافة الإسلامية، حيث كانت المناظرة كممارسة عملية حاضرة منذ بدايات تَشكّل الثقافة الإسلامية، وتحديدًا مع نزول الوحي، حيث فجّر الوحي الجدل حول العديد من القضايا التي كانت شبه مستقرة في الثقافة العربية، مما أدى إلى نشوء حالة من الجدل والنقاش والحوار والمناظرة وكل أشكال تداول الحجج والأدلة بمختلف أشكالها، وحول قضايا مصيرية ووجودية تتعلق بما وراء المادة، كالتوحيد، والرسالة ،واليوم الآخر، وقد سجل القرآن الكريم العديد من هذه المحاورات، ناقلًا الحجج، والحجج المضادة بكل موضوعية.

هذا لا يعني أن العرب والمسلمين عرفوا المناظرة كعلم له قواعد وأصول منهجية كما عرفته اليونان وتحديدًا أفلاطون -الذي أعطى الجدل قيمة عالية في فلسفته، حيث جعله محور الفلسفة وأداتها الرئيسية، والطريق الموصل إلى العلم الكلي، وإلى معرفة المثُل والماهيات الحقيقية للأشياء، وجعل الجدل يقابل نظرية المعرفة التي تشغل حيزًا كبيرًا من الفلسفة- وإنما عرفوه كممارسة راسخة في ثقافتهم، تتجلى في منتدياتهم، وأشعارهم، وأسواقهم، وخطبهم، كما تتجلى في نصوص القرآن الكريم الذي واجه حجج أدلة المخالفين، كما نقل محاورات ومجادلات الأنبياء مع أقوامهم، وقد تجلت فيما بعد في مجالس الخلفاء الذين كانوا يعقدون لها مجالس خاصة يُدعى لها الفلاسفة والفقهاء والمتكلمون والمحدثون والشعراء، فيما يشبه الرعاية الرسمية للمناظرة من قبل الدولة.

يقودنا ذلك إلى التفريق في تناول المناظرة في التراث بين كونها ممارسة عملية حاضرة دائمًا في الفضاء العام، وبين المناظرة كعلم قُعّدَت قواعده، وأُصلت أصوله، وأصبح جزءًا من منظومة العلوم والمعارف التي نشأت في ظلِّ الحضارة العربية والإسلامية.

كل مناظرة نظر، وإن كان ليس كل نظر مناظرة، فالمناظرة مفاعلة من النظر، وهو نظر بين اثنين

مصطلح المناظرة:

عند الحديث عن المناظرة كممارسة عملية تحولت فيما بعد إلى علم ومنهج في البحث، فإن أول ما يمكن التوقف عنده هو المصطلح، وجذوره في اللغة العربية، حيث جاءت المناظرة من مصدر ناظَرَ، المأخوذ من النظر، “وكل مناظرة نظر، وإن كان ليس كل نظر مناظرة، فالمناظرة مفاعلة من النظر، وهو نظر بين اثنين” [1] فالمفاعَلة تتضمن تفاعلًا بين طرفين، وتبادلًا في التأثير بينهما

     النظر في اللغة  والذي جاء منه مصطلح المناظرة، له عدة معانٍ، منها:

١- النظر بالعقل، فهو ” تقليب البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص  أو المعرفة الحاصلة بعد الفحص، وقولُه تعالى: {انظُرُواْ مَاذا فِى السَّمَـوتِ} [يونس:101]، أَي تأملوا، والنظر هو الفكر في الشيء تُقَدّره وتَقيسه”[2] وهذا المعنى لصيق بالمناظرة التي لا تتم دون النظر في الأدلة وتأمّل في الحجج.

٢- كما تأتي المناظرة من النظر بمعنى الإبصار بالعين؛ “لأن كلّا من الخصمين ناظرٌ للآخر”[3]، ويؤيده قول الزبيدي: “واستعمال النظر في البصر أكثر استعمالًا عند العامة، وفي البصِيرة أكثر عند الخاصّة” [4]، ومن هذا المعنى أخذ علماء المناظرة أحد الآداب الواجب رعايتها عن عملية التناظر، وهي عدم الإعراض عن الخصم، والحرص على النظر إليه قدر المستطاع.

٣-  وقد تأتي المناظرة من النظر بمعنى الانتظار “يقال: نظرتُ فلانًا  وانتظرته، بمعنى واحد.. ومنه قوله تعالى: {يوم يقول المنافقون والمنافقات انظرونا نقتبس من نوركم} [الحديد: 13]، وفي حديث أنس: «نظرنا النبـيَّ صلى الله عليه وسلّم ذات ليلة حتى كان شطر الليل» [5]، أي انتظرنا، ومنه قول عمرو بن كلثوم:

أَبَا هنْدٍ فلا تَعْجَلْ عَلَيْنَا             وأَنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ اليَقينَا

ومن هذا المعنى أخذ علماء المناظرة ضرورة الانتظار عن عرض الخصم للحجج والأدلة، وعدم مقاطعته.

٤- والمناظرة قد تكون مأخوذة من النظر بمعنى النظير “، والمناظر: المِثل والشبيه في كل شيء، يقال: فلانٌ نظيرك، أي مثلك، لأنه إذا نظر إليهما الناظر رآهما سواءً.

وناظره: صار نظيرًا  له في المخاطبة، وناظر فلانا بفلان: جعله نظيره، ومنه قول الزُّهْرِيّ محمد بن شهاب: “لا تناظر بكتاب الله ولا بكلام رسول الله صلَى الله تعالى عليه وسلّم، قال أَبو عُبَيد: أَي لا تجعل شيئا نَظيرًا لهما)” [6]، ومن هذا المعنى وضع العلماء شرطًا للمتناظرين وهو أن يكونا نظيرين في العلم والفهم، فلا يناظر العالمُ الجاهلَ.

خلاصة ما جاء في المعنى اللغوي للمناظرة، أنها مأخوذة من النظر بالبصيرة، أو البصر، أو من الانتظار، بمعنى التمهل والتوقف، أو من النظير بمعنى المثيل أو الشبيه، ولا تخلوا هذه المعاني اللغوية من ارتباط بينها وبين المعنى الاصطلاحي، فلم يخرج علماء المناظرة في حديثهم تأصيلهم لهذا عن هذه المعاني اللغوية، فقد ذكروا أن من شروط المناظرة أن يكون الطرفان نظيران، كما ذكروا أن من آدابها أن ينظر كل طرف إلى الطرف الآخر فلا يعرض عنه بوجهه، وينتظره كي يسمع حجته ودليله.

ومن هنا يمكن تعريف المناظرة باعتبارها ممارسة عامة بأنها: مراجعة في الكلام بين طرفين مختلفين، يسعى كلٌّ منهما لتصحيح قوله، وإبطال قول الآخر، مع رغبة كل منهما في ظهور الحق. [7]

ومن هذا التعريف يمكننا معرفة الفرق بين الجدل والمناظرة باصطلاح العلماء، حيث الجدل في عُرفهم يفتقر إلى شرط “الرغبة في ظهور الحق، ولذلك عرّفوه بأنه: “تردد الكلام بين اثنين قصد كل واحد منهما تصحيح قوله، وإبطال قول صاحبه”[8]، فالوصول إلى الحق والرغبة الصادقة في ذلك هو ما يميز المناظرة عن الجدل، وهنا يبرز الجانب الأخلاقي والموضوعي في المناظرة.

المناظرة كعلم

بالنظر إلى المناظرة كعلم ساهم علماء المسلمين في تأصيله وتقعيده، وإنضاج مباحثه، بعد أن كانت عبارة عن أدبيات مفرقة في بطون الكتب من شتى المجالات، فجُمعت مسائله، ورُسمت مباحثه، فنضج كأحد أهم علوم الآلة [9] التي تحتاجها العلوم الإسلامية للدفاع عن مسائلها ورد الاعتراضات عليها والشبهات التي تُثار حولها.

وقد تعددت تعريفات علم المناظرة، لكن جميعها يدور حول النظر إليه باعتباره قواعد وقوانين تهدف إلى تنظيم الحجج بين المتخاصمين وترتيب البحث بينهم، ليكون على وجه الصواب، حتى يظهر الحق بينهم، فالكلام بين المتناظرين لا يُرسل على عواهنه، وإنما له كيفية معلومة في هذا الفن، والغرض من تلك القواعد “تحصيل ملكة طرق المناظرة لئلا يقع الخبط في البحث، فيتضح الصواب”[10]

يتبع: الفرق بين المناظرة كعلم والجدل كعلم في الحضارة الإسلامية ومسائل هذا الفن


بقلم: د. علي السند

المراجع

([1] ) الجويني، الكافية في الجدل، ص19

([2] ) الزبيدي، تاج العروس (14/ 245)

([3] ) هارون عبد الرزاق، كتاب في فن آداب البحث والمناظرة، ص4-5

([4] ) الزبيدي، تاج العروس (14/245)

([5] ) رواه البخاري في صحيحه، رقم (593) ، (1/215)

([6] ) الزبيدي، تاج العروس (14/ 249- 252)

([7] ) وهذا التعريف قريب مما ذكره أحمد الشنقيطي في شرحه لآداب المرصفي المسمى إتحاف المنصفِ، بشرح آداب المرصفي ص7، حيث عرف  المناظرة بأنها: المحاورة والمراجعة في الكلام بين شخصين مختلفين، يسعى كل واحد منهما لتصحيح قوله، وإبطال قول الآخر، مع رغبة كل منهما في ظهور الحق

([8] ) الباجي، المنهاج في ترتيب الحجاج، أبي الوليد الباجي، ص11

([9] ) علوم الآلة هي العلوم التي تمكن دارسها من فهم مختلف العلوم العربية والإسلامية، فهي توفر للطالب الأرضية اللازمة للانطلاقة العلمية، وهذه العلوم هي: علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة، والعلوم العقلية مثل المنطق والمناظرة.

([10] ) صديق حسن القنوجي، أبجد العلوم، ص255

كلمات مفتاحية:

اترك تعليقا

This website uses cookies to ensure you get the best experience on our website. | Privacy Policy