مغالطة المستعمر “حق الدفاع عن النفس”

“إسرائيل لديها الحق في الدفاع عن نفسها”، حجّة لطالما سمعناها من مسؤولي الكيان الصهيوني، ويظلُّ يرددها المسؤولون الغربيون كلما ضربت المقاومة هذا الكيان، وكان هذا الحجاج واضحاً بشكل متكرر مؤخراً عندما علّقت الإدارة الأمريكية والحكومات الغربية على هجوم الكيان الصهيوني على قطاع غزّة، في محاولة منهم لدعمه وتبريره بعد عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في السابع من أكتوبر الماضي. في هذا المقال سنحاول أن نحلل هذا الادعاء، لنثبت أن ليس له أساساً من الصحة، وأن استعماله في هذه الحالة له آثار كارثية. سنقوم بذلك عن طريق أولاً طرح تعريفات مهمة حول هذه القضية، ومن ثم سنجيب على أربعة أسئلة رئيسية. الأول حول من بدأ الحرب؟ وهل هناك حق أخلاقي للكيان الصهيوني للدفاع عن نفسه؟ وهل لهذا الكيان حق قانوني في ذلك؟ رابعاً وأخيراً، ما أثر تكرار الادعاء بامتلاك هذا الحق الآن؟

في البداية يجب أن نتطرّق إلى تعريفات مهمة مرتبطة بالحجاج في هذه القضية، الأول حول فلسطين، حيث كانت بعد سقوط الدولة العثمانية، واتفاقية سايكس بيكو، مستعمرة تحت الانتداب البريطاني، كغيرها من المستعمرات في المنطقة، كالعراق مثلاُ، والتي كان هدف الانتداب المعلن وقتها هو تهيئة هذه المستعمرات لكي تصبح دولاً مستقلة، لديها شعب وأرض، ولكن ينقصها وقتها حسب مفهوم تلك الدول التي خرجت من الحرب العالمية الثانية نظام حكم عصري، ومؤسسات تستطيع إدارة هذه الدولة الحديثة. وقد صنفت الإمبراطورية البريطانية انتداب فلسطين وقتها على أنه من الدرجة الأولى، والذي يعني بأن هذه المستعمرة شبه جاهزة، أو لا ينقصها الكثير حتى تصبح دولة مستقلة، الأمر الذي لم يتم في النهاية. في المقابل فإن ما يعرف “بدولة إسرائيل” هو كيان أُنشئ في عام 1948، بعد بضعة عقود من وعد بلفور الذي أصدر في نوفمبر 1917، والذي جاء استجابة للحركة الصهيونية، حيث أعربت حكومة الإمبراطورية البريطانية وقتها عن دعمها إنشاء “وطن للشعب اليهودي” في فلسطين، الأمر الذي طبق لاحقاً عبر السياسة التي اتبعتها هذه الإمبراطورية في تشجيع هجرة اليهود المشتتين في مختلف دول العالم إلى هناك، وتدريب ميليشيات الهاجاناه الصهيونية وقتها وتجهيزهم، حتى تمكنوا بعدها من مهاجمة المدن والقرى الفلسطينية، مما أدى إلى جرائم حرب ومذابح جماعية، وتهجير قسري لملايين الفلسطينيين، وأصبحت بمرور الزمن، وبعد حرب 1967 وما شهدته هي أيضاً من جرائم إبادة وتطهير عرقي، بالشكل الذي نعرفه الآن. ملايين خارج أرضهم موزعين في دول العالم، يُمنعون من حقهم بالعودة بعد ما تعرضوا له من تهجير، وملايين آخرون تحت الاحتلال، إما في قطاع غزة، أو فيما تبقى من الضفة الغربية، أو داخل الخط الأخضر الفاصل بين الأراضي المحتلة عام 1948 والأراضي المحتلة عام 1967.

"إسرائيل لديها الحق في الدفاع عن نفسها وشعبها، وهذا الأمر لا مجال للجدال فيه."

وبالدخول في الحجاج، سنجيب أولاً عن سؤال من بدأ الحرب؟ وهنا تأتي الحاجة بالتطرّق إلى تأطير القضية. فالتأطير هنا مهم في التحكّم في السردية، فهو يمنح الحرية في تفسير الأحداث بطريقة مجتزأة عن السياق، وبشكل يمكنك فيه سرد القصة بطريقة تجلب التعاطف لقضيتك، وهذه أداة قوية بشكل مرعب حيث يمكنها أن تجعل من الجلاد ضحيّة. في الواقع، قلب الحقيقة عبر التحكم في السردية ليس صعباً على الإطلاق، كل ما عليك فعله فقط هو أن تبدأ بسرد قصتك مما حدث لاحقاً، وسيقلب كل شيء رأساً على عقب! فإذا كنت من مدعي تفوق الجنس الأبيض في جنوب أفريقيا، يمكن أن تبدأ قصتك بالتفجيرات التي قادتها حركة “أومكونتو ويزي ويزو” (MK)، التي تأسست في عام 1961 بقيادة نيلسون مانديلا، وعملياتها العسكرية التي استهدفت فيها مرافق حكومية ومنشآت اقتصادية حيوية، وذلك لكي تظهر بأن نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقياً هو نظام يدافع عن نفسه ضد هؤلاء الإرهابيين الذين يقودهم مانديلاً. بنفس الطريقة، عندما نبدأ بالحديث عن السهم والرمح الذي وجهه الهنود الحمر للمستوطنين الأوروبيين في أمريكا الشمالية، يمكن أن نبرر الإبادة التي حصلت للسكان الأصليين هناك في القارة، ويمكننا أن نجعل بندقية هؤلاء المستوطنين الذين بنوا ما نعرفه اليوم بأمريكا وكندا رمزاً لتحقيق الأمن في القارة، وحقاً مشروعاً لأولئك المستوطنين الدفاع عن أنفسهم.

وبالعودة للصراع الفلسطيني الصهيوني-الإسرائيلي، يمكن للمتتبع لوسائل الإعلام التقليدية الرئيسية في العالم أن يلاحظ بوضوح التحيز نحو الرواية الصهيونية-الإسرائيلية، بما في ذلك ما نشهده من أحداث اليوم، فدولة إسرائيل – الديمقراطية الوحيدة في المنطقة – في نظر وسائل الإعلام هذه هي الضحية، التي هاجمها مجموعة من البربريين في السابع من أكتوبر بدون أي سبب. إن تأطير هذه القضية بهذا الشكل الفاضح يعني بأن إسرائيل تستغل هذه الأداة الفعالة لتأطير ما يجري من أحداث في فلسطين وفق لروايتها. فالتاريخ لم يبدأ يوم 7 أكتوبر عندما هاجمت حماس غلاف غزّة، وكما قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في إحاطته لمجلس الأمن في الرابع والعشرين من أكتوبر “من المهم أيضًا أن ندرك أن هجمات حماس لم تحدث من فراغ. تعرض الشعب الفلسطيني لـ 56 عامًا من الاحتلال المطبق. لقد شهدوا (الفلسطينيون) تدمير أراضيهم تدريجيًا بواسطة المستوطنات وتفشي العنف؛ وتعطيل اقتصادهم؛ وتشريد شعبهم وهدم منازلهم. وأصبح أملهم يتلاشى في حل سياسي لمحنتهم.”. تصريحه هذا في جلسة عامة لمجلس الأمن حضرها وزراء خارجية دول العالم، أحرج هذا الكيان، ووزير خارجيته، ومبعوثه في المنظمة الأممية، الذي طالبه بعدها بالاستقالة. ببساطة، محاولة تغيير السردية السائدة عبر استدراك تاريخ الصراع أمر حساس بالنسبة للصهاينة الذين يحاولون التحكم فيها لقلب حقيقة الصراع.

إن سرد القصة بشكل انتقائي حسب أهواء الصهاينة هو بالضبط ما يريده الكيان، بمجرد حديثك هنا عن “حق الدفاع عن النفس”، سيحول التركيز في الحديث عن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ويوجهه إلى رد الفعل الفلسطيني على هذا الاستعمار، وبذلك ستصبح صواريخ المقاومة الفلسطينية هي عدوان على إسرائيل التي تحاول أن تحمي مواطنيها، وسيتم تجاهل السياق التاريخي الصحيح المتعلق بالاستعمار الصهيوني لهذه الأرض، وبالجماعات الفلسطينية الموجودة قبل هذا الاستيطان، وبقصة إنشاء قطاع غزة، ولماذا يتواجد ملايين اللاجئين هناك وحول العالم، ولماذا يُمنعون من أبسط حقوقهم، وهو القدرة على العودة لديارهم. ولذلك فإن الإجابة هنا على السؤال الأول، من بدأ هذه الحرب؟ هي ببساطة الكيان الصهيوني المستعمر والمستوطن لهذه الأرض التي هجّر منها آباء وأجداد الفلسطينيين الذين يطلقون الصواريخ اليوم كوسيلة مقاومة للعنف والحصار والتهجير الذي يتعرضون له.

أماّ عند الحديث عن الحق الأخلاقي، يجب على الإسرائيلي لكي يفوز في هذا الحجاج بأن يقنعنا بأن حقه الأخلاقي كمستوطن مستعمر للأرض ما أن يدافع عن نفسه ضد السكان الأصليين الذين يستعمرهم، ومجرد محاولة المحاججة في هذا أمر غاية في الجنون واللامنطقية. فمعنى “حق الدفاع عن النفس” في هذا السياق بالتحديد، الذي لا يمكن فيه لمستعمر البقاء على الأرض إلا بنفي من يوجد قبله عليها، هو ببساطة منح هذا المستعمر الحق في استخدام وسائل الإجرام ضد أصحاب الأرض لمنعهم من التفكير في منافستهم عليها. فالاستيطان الاستعماري من تعريفه هو عملية توسع المستوطنين في الأراضي الأجنبية واستيطانهم فيها بغرض الاستيلاء على الموارد والسيطرة السياسية والاقتصادية على تلك الأراضي، ولا يتم ذلك إلا عن طريق هجرة المستوطنين من البلد الأصلي إلى الأراضي الأجنبية، واستخدام سياسات التهجير القسري للسكان الأصليين، وترويعهم واضطهادهم وتجاهل حقوقهم الأساسية لإجبارهم على النزوح عنها.

وعند محاولة ملاحظة ما يحدث في غزّة من هذا المنظور الشامل، سنرى بأن المواطن الغزّاوي هو لاجئ فلسطيني، من الجيل الثاني أو الثالث لعائلة تعرّضت لتطهير عرقي لأنهم ليسوا يهوداً، وذلك كان إما في النكبة عام 1948 التي أدّت لإنشاء الكيان الصهيوني، أو في النكسة عام 1967 التي أدّت إلى هزيمة الدول العربية المجاورة لهذا الكيان، واحتلال هذا الكيان لما تبقى من الأراضي الفلسطينية. إن وجود هؤلاء الفلسطينيين البالغ عددهم تقريباً 2.3 مليون لاجئ، في هذا القطاع يشكل هاجساً وتهديداً وجودياً لجيرانهم من المستوطنين المستعمرين، لأن هذا المواطن الفلسطيني الغزاوي البسيط سيحاول بكل ما في وسعه أن يستعيد حقوقه المسلوبة، والتي في مقدمتها أرضه التي هجر منها بالقوة، وأعطيت لشخص آخر قدم من روسيا أو أوروبا فقط لأنه يهودي. إدراكاً لهذه الحقيقة، يصبح من البديهي أن يقوم المستوطنون المستعمرون لهذه الأرض بكل ما في وسعهم للتضييق على سكان هذا القطاع المجاور لهم، وجعل حياتهم سوداوية للنزوح بعيداً عنه. إن محاولة ابن أو حفيد هذا المستوطن المستعمر ادعاء حقه في الاستمرار في احتلال فلسطين، والدفاع عن نفسه، وإجبار هذا الغزاوي على البقاء ساكتاً عن أرضه، مسلوباً لأبسط حقوقه، محاصراً في رقعة جغرافية صغيرة، يتحكم ذلك المستوطن فيها بكل شيء؛ بمعابرها، وببحرها، وبجوها، وباقتصادها، هي في الحقيقة وسيلة لتمكينه من إنهاء هذا التهديد من أساسه.

إن محاولة ادعاء أن من حق المستوطنين المستعمرين ضمان أمنهم ممنَن يضطهدونهم ويعذبونهم هو أمر غاية في اللامنطقية، فهو ببساطة يعادل أن يطلب قاطع الطريق أمنه من ضحاياه الذين سيحاولون منعه بالرد على محاولته سرقتهم. وبالمناسبة هذا الادعاء سمعناه كثيراً عبر التاريخ، فأبشع القوى الاستعمارية أيضاً كإيطاليا الفاشية وإمبراطوريتي فرنسا وبريطانيا الإمبريالية، كانت تدّعي ممارستها للسيادة على أراضي مستعمراتها، وحقها في الدفاع عن أرضها، وأمن مستوطنيها ضد البربر الذين كانوا يقاومونها هناك، ويروعون أمن مواطنيها الذين جاءوا لنهب هذه الأرض.

وبالرغم من أن النظام الدولي الذي أنتجه المنتصرون بعد الحرب العالمية الثانية هو نظام يمكن لنا أن نختلف عن مدى مناسبته ليكون مرجعية قانونية لنا في تبرير من معه الحق، ومن معه القانون الدولي، ولكن باعتبار أن هذا الموضوع هو أيضاً شائك وسيفتح لنا مناظرة أخرى – يمكن أن نحظى بوقتها في مناسبة لاحقة – إلا أننا سنحتكم من الناحية الشرعية هنا جدلاً لقوانين وقرارات هذا النظام الدولي، التي صنعتها بشكل أساسي هذه الدول الغربية المنتصرة، والتي تحاول أن تبرر اليوم انتهاكات هذا الكيان عبر حجة “حق الدفاع عن النفس”.

إن الحق القانوني في “الدفاع عن النفس” هو أحد العادات والتقاليد الدولية التي يبرر فيها لأي دولة مستقلة الدفاع عن نفسها من أي هجوم أو عدوان تمارسه دولة أجنبيه على أراضيها. إن هذا الحق وفقاً لهذا التعريف أعطى الحق للعراق وقتها كدولة مستقلة معترف بها أن تدافع عن نفسها من الاحتلال الأمريكي لها، كما أنه اليوم يعطي الحق لأوكرانيا، كدولة مستقلة معترف بها دولياً، أن تدافع عن نفسها من العدوان الذي تشنه الآن روسيا عليها. إن هذا الحق ببساطة يمنحه القانون الدولي للدول المستقلة للدفاع عن نفسها من اعتداءات الدول الأجنبية عليها، ولكن ادعاء الكيان لهذا الحق القانوني في هذه الحالة، وترديد صداه من قبل قادة الغرب هو ادعاء باطل قانونياً، لأنه لا ينطبق على هذا الكيان في هذا السياق، فإسرائيل اليوم هي دولة احتلال بحسب القانون الدولي، وهذا الادعاء بالتالي هو قلب للقانون الدولي رأساً على عقب. فكأنك تقول هنا بأن “روسيا” إذا نجحت في الدخول لأوكرانيا واحتلالها لها الحق في الدفاع عن نفسها ضد ما تبقى من مقاومة أوكرانية.

بالعكس تماماً، إن اعتبار غزّة والضفة الغربية، أراضي محتلة، وفقاً للقانون والقرارات الدولية يمنح للفلسطينيين الحق الشرعي في الدفاع عن أنفسهم من هذا الاحتلال. فميثاق الأمم المتحدة نفسه في أول مواده ينصُّ على أن جميع الشعوب لها الحق في تقرير المصير، وهو حقها في تحديد مستقبلها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وبالتالي، فإن حركات المقاومة التي تسعى لتحقيق الاستقلال وتقرير مصير الشعب لديها حق شرعي وقانوني في النضال من أجل ذلك. كما أن الجمعية العامة في قرارها رقم 2625 (XXV) تؤكد على حق الشعوب في النضال ضد الاستعمار والاحتلال والاستبداد، كما تؤكد اتفاقية جينيف الرابعة لعام 1949 في موادها، وفي البروتوكولين الإضافيين لها حق الحماية للأشخاص الذين يشاركون في النضال المسلح لإحقاق حقوقهم الشرعية، بما في ذلك النضالات المسلحة ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي والاستبداد العنصري. ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي تعتبر جميع قراراته ملزمة قانونياً للدول الأعضاء، أشار في أكثر من قرار إلى أن إسرائيل هي دولة احتلال، فالقرارات رقم 242 (1967)، و338 (1973)، و446 (1979)، جميعها تُطالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي ضمتها بعد النكسة، بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، وتُدين الاستيطان، وتُشير إلى حق الفلسطينيين في العيش بأمان داخل حدود معترف بها. هذا بالإضافة إلى قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3236  (1974) و  3376 (1975)، و 43/177  (1988)و 72/15 (2017) وغيرها من القرارات التي تأتي في نفس السياق.

وبالتالي فإن القانون الدولي يعرّف الفلسطينيين على أنهم تحت الاحتلال الإسرائيلي. وهذا يعطي لحركات المقاومة الفلسطينية، كحماس هنا، الحق في استخدام وممارسة العنف لتخليص شعبهم من الاستعمار. وبالتالي فإن هذا يجعل الحق في الدفاع عن النفس لصالح حركات المقاومة الفلسطينية، وليس للكيان الصهيوني، وهذا ما يجب أن يعاود صداه قادة الغرب، إن كّنّا نعيش في عالم عادل.

أخيراً، إن محاولة ادعاء الكيان لهذا الحق، وتكريره باستمرار من قبل الغرب، واستعمال هذا الادعاء للرد على قيام البعض بتسليط الضوء على ممارسات الاحتلال، هو محاولة لتبرير العنف الذي يمارس من قبل أقوى جيش في المنطقة في حق قطاع صغير محاصر مساحته لا تتعدّى 360 كيلومتر مربع، ويعيش فيه أكثر من مليوني وربع إنسان، ويجعل المستمع البسيط لهذا الادعاء الذي لا يعلم سياق هذا النزاع يتجاهل جرائم الحرب التي ترتكب باسم هذا الحق. وهنا يجب أن نكون واضحين، فحتى عندما يكون لدولة ما هذا الحق فعلاً، فإن هذا يعني الحق في مهاجمة القوات المعادية المسلّحة فقط، مع بدل كل الجهد للحفاظ على حياة المدنيين، وعدم استهداف أو تدمير المنشآت المدنية. وبالتي وفي هذا السياق، فإن هذا الحق – حتى وإن افترضنا جدلاً بأن الكيان الصهيوني يملكه – يمنحهم القدرة فقط في استهداف المسلحين من حركة حماس وحركات المقاومة الأخرى. إن هذا الحق لا يبرر بأي شكل من الأشكال قطع الغذاء، أو الماء، أو الكهرباء، أو الإمدادات الطبية، كما لا يبرر في نفس الوقت ما شهدناه من تدمير متعمد للبنية التحتية المدنية، وقصف التجمعات السكانية، والمستشفيات، والمدارس. فالصور والإحصائيات التي تأتينا من قطاع غزّة منذ ما يزيد عن شهر مفجعة. إن ادعاء الكيان الصهيوني لهذا الحق الآن وسط جرائم الحرب التي يرتكبها في حق سكان هذا القطاع يأتي في سياق تبرير هذه الجرائم، وتكرار هذا الادعاء من قبل زعماء العالم الغربي هو إعطاء الضوء الأخضر لهذا الاحتلال بارتكاب المزيد من المجازر بحصانة كاملة. لذلك فإن تكرار هذا الادعاء الآن يترتب عليه مساوئ عظمى، تتمثل في دفع هذا الاحتلال لارتكاب المزيد من المذابح بدون الخوف من أي مساءلة.

نخلص في النهاية إلى أن إسرائيل ليس لديها الحق في الدفاع عن نفسها كدولة احتلال، لا أخلاقيا، ولا قانونيا، ولا تقوم بالأساس بالدفاع عن نفسها، بل هي وفقاً للسياق التاريخي من بدأت الحرب، وهي من تستعمر الأرض، ولا تزال وفقأً لهذا المفهوم في موقع المهاجم، وستظل تهاجم للحفاظ على مستقبلها ككيان استيطاني. إن تكرار هذه الادعاءات يضاعف من الجرائم التي يرتكبها الكيان ليس فقط ضد حركات المقاومة التي تكفل لها جميع الشرائع السماوية والقوانين الدولية حقها في النضال من أجل الاستقلال، بل أيضاً ضد المدنيين العزّل.

بعد إثباتنا بأن إسرائيل ليس لديها الحق في الدفاع عن نفسها احتكاماً للمنطق، وللقوانين الدولية التي اتفقنا جدلاً على وضعها كأساس لبناء موقفنا في هذه القضية لاعتبارات سياق هذا العصر “التي ليست منصفة بالضرورة”، نظل مؤمنين بأنه في عالم عادل ستكون فلسطين قضية غير قابلة للتناظر. ولكن وللأسف، نحن نعيش في عالم ذو معايير مزدوجة، تقوم فيه الدول بالتحرك وفقاً لمصالحها، أمّا الوجه الإنساني، فيبقى قناع يحاول أن يرتديه هذا أو ذاك، ليوظفه في خدمة مصالحه.

بقلم:

م. محمد إبراهيم أبوسنينة

ماجستير علاقات دولية - جامعة بيرمينغهام، المملكة المتحدة. المدير التنفيذي لمؤسسة الحوار والمناظرة (ليبيا) وخريج أكاديمية النخبة – مركز مناظرات قطر.